وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ .. إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ
تلك الكلمات التي صرخ بها أبينا إبراهيم منذ زمن بعيد .. تلك الكلمات التي جهر بها عندما اكتشف الصدمة الكبرى في حياته، عندما أدرك أنه يحيا في مجتمع كاذب مختل .. فقد نشأ إبراهيم في بيئة تحتم عليه أن يتبع الآباء والأجداد .. أن يكون ولائه لعادات المجتمع وتقاليده بصرف النظر عن مدى صحتها.
إنها بيئة يتبع فيها الرجال شهوات السلطة والنفوذ والأهواء .. وكله باسم الإله .. تلك التماثيل التي صنعوها بتقوى شديدة بدعوى أنها ترمز للخالق، لكن الحقيقة أنها ترمز لأطماعهم وحب السيطرة والكبرياء والنفوذ بينهم ولهذا يتمسك بها القوم ويتعصبون لها، هم يعلمون أنها آلهة مزيفة وليس لها في نفوسهم أي قدسية .. لكنهم يتبعون النظام الذي وضعه الأجداد ثم تركوه ميراثاً للأبناء .. لم يفكر الأبناء جيلاً بعد جيل في مراجعة آبائهم ولا أسلافهم .. وحتى من يدرك منهم ويكتشف زيف الحقائق، فلن يضحي بما اكتسبه من نظام وأسلوب حياة من اجل لاشيء بزعمهم.
في قرية إبراهيم، حيث جميع القوم يبرزون لبعضهم الفضائل لكن سرهم الصغير المشترك هو: نعلم انه هراء ولا أحد يكترث بأمر الآلهة .. لكنها ضرورية الشكل كي نحافظ على مكانتنا وكبريائنا بين الأقوام وبيننا البعض.
لربما كان هذا هو السبب الرئيسي كي يدرك الفتى الصغير هذا التباين .. ليرى كيف أن قومه يقولون أشياء ويفعلون أشياء أخرى، ليرى كيف قومه يقلبون الحقائق ويختزلون الأحاسيس، وكيف يختصرون معنى الإله الخالق في كلمة واحدة أو قطعة من الحجر أو تراثا مجهولاً.
يوجد شيء خاطئ جداً في عبارة الحياة لدى هؤلاء القوم، والخطأ إما أن يكون في جملة القوم بأكملهم .. أو أن يكون هكذا هو الخالق وما يفعل قومه هو حقاً ثوابت الإله.
ولكن .. بنظرة في النجوم .. بلمحة من السماء ..بمراقبة الطير والرياح وتمايل الأشجار .. بالتأمل في ثبات الجبال وجريان الأنهار .. فلا توجد سوى حقيقة واحدة تشربها الفتى ذو القلب البريء .. أن معنى الخالق الكبير هو بعيد كل البعد عما يقول ويفعل ويقسم هؤلاء.
إنهم يفترون على خالق كل هذا الجمال بل ويدعون أنهم يتحدثون باسمه، يقولون أنه الحي العظيم .. ثم يشبهونه بقطعة من حجر هي من صنع أيديهم الآثمة.
إنهم يدعون أنهم مفطورون على دين تلك الأحجار، لكنهم يتناسون أنهم من شكلوها أولاً لتتماشى مع فطرتهم المحرفة، المشبعة بالجمود والصمت تماما كآلهتهم الحجرية.
هنا كانت بداية تحديد القرار لدى إبراهيم .. كذبة مهولة تلك التي يحيا بها .. وكل لحظة تمر عليه يشعر بعمق الكذبة ومدى تأصلها في نفوس قومه .. هو ليس مثلهم .. هو ليس منهم.
هو يحب قومه وعلى رأسهم أبيه أذر صانع تماثيل الآلهة .. هو يريد البوح .. هو يريد أن يحذرهم.
هو يعلم أن من الجنون أن يتكلم .. لكنه يعلم كذلك أنه يتواطأ إن صمت ... هو لا يريد الإقرار بهذه الكذبة ولو حتى بصمته .. يريد أن يبرئ روحه من تلك التهم الأخلاقية الفجة .. فليتكلم إذن .. وليكن ما يكون.
فليطعن في عقيدة القوم لأنه أدرك أن بداخله قلب مازال ينبض بالحب والحياة .. وليس حجراً أصم كما يعبدون.
فلتصرخ بها عالية يا إبراهيم ... فلتتبرأ من كل الأكاذيب المفتريات باسم ألهتهم المزعومة .. فلتطهّر ساحتك من كل إتباع أعمى وكل عادة ظاهرها التقوى وباطنها الخداع.
ولتستعد لطريق آخر عرضه ملكوت السماء والأرض .. وليحفظ الله قلبك الذي لم يأت قلب مثله في صدر بشري سواك.
أبي إبراهيم ... صلى الله عليك وسلم
يتبع....
وليد فاروق